الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على سيّدنا رسول الله وآله وصحبه وبعد:
أقيمت قبل أيام ندوة حول مفهوم البدعة عند أهل السّنّة والجماعة والخلاف الواقع فيها، فاعترض بعضهم على التّوجيه الذي ذكرتُه لحديث مولانا رسول الله ﷺ (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وتعامَل هذا المُنتقد مع هذا التّوجيه على أنه صادر عنّي أصالة وما أنا فيه إلا ناقل عن الأئمة وأساطين العلم. وكان مما ذكرتُ أثناء اللقاء أن كثيرًا من التّشنيع الصادر عن المُضّيقين لهذا المفهوم من المعاصرين إنما هو بسبب قلة الاطلاع على ما أصلّه جماهير علماء أهل السنة من أهل الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر،
قال الإمام الذهبي(تـ1304هـ): «وقد تعدّ طائفة الشيء بدعة، ولا تشعر بأنه جاء فيه أثر.»
وبعضهم يحمله خوف الخروج عما ألفه من الأقوال إلى الوقوع في الظلم والتبديع والعدوان والتشنيع بغير بغير طريقة شرعية ولا حجة مرضية، ويقع في جهالة أخرى فظيعة وبدعة شنيعة وهي تنزيل المختلف فيه منزلة القطعيّ المتفق عليه.
وكما أن الأمة قد ابتليت بغلاة تبديع، الذين يُبدّعون ما لا يصّح فيه هذا الحكم ثم لا يطّردون هم بأنفسهم على حسب قواعدهم في تبديع كل مُستحدث، فهناك من توسّع في استحسان البدع بلا التزام ضابط صحيح.
قال العلامة عبد الحي اللكنوي (تـ1304هـ):
«وما أشنع صنيع علماء زماننا، حيث افترقوا فرقتين:- ففرقة: حصر السنة على ما وجد في العهود الثلاثة، وجعل ما حدث بعدها بدعة ضلالة، ولم ينظر إلى دخوله في أصول الشرع، بل منهم من حصرها على ما وُجد في الزمان النبوي، وجوّز كون مُحدث الصحابة بدعة ضلالة.
– وفرقة اعتمد على ما نُقل عن ابائهم وأجدادهم، وما ارتكبه مشايخهم، وأدخل كثيرا من البدع الحسنة اعتمادا عليهم، وإن لم يكن له أصل من أصول الشرع.. وإلى الله المشتكى من هذه المنازعات والمخاصمات.»(إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة)
والمتفق عليه بين أهل السنة والجماعة هو ذم البدع والمحدثات التي لا أصل لها في الشريعة أو تتضمن معنى فاسدا كالاستدراك على الشرع ونسبة النقص إليه واتهام البلاغ النبوي بالتقصير.
وكان التوجيه الذي ذكرته أن النبي ﷺ بقوله في الحديث (ما ليس منه) أن فيه إشارة أنّ المحدَث إنما يكون مردودًا باطلاً غير مُعتدٍّ به ولا يجوز التقليد فيه إذا كان على خلاف الشريعة وأصولها، وأن المحدَث الموافق للشريعة والمندرج تحت أصولها والمُطابق لمقاصدها فليس هذا من قبيل الباطل المردود.
ومن جُملة ما يُضبط به هذا الباب:
– أن يكون أصل الفعل قربة إلى الله تعالى.
– أن لا يرد نهي خاص بها.
– عدم اعتقاد سُنيتها على الخصوص إذ المشروع المُستحسن أعم من السُّنة النبوية.
– عدم مصاحبتها لحرام أو تفضي إليه.
– عدم اعتقاد تتميم الدين أو الاستدراك عليه ولكنها داخلة في عموم المطلوب شرعا بسند ظاهر ملفوظ أو خفي مستنبط.
وإيضاح هذه القيود مهمة لمنع الغلو في التبديع وصد العدوان والتشنيع على أئمة الدين والفقهاء المعتبرين ومن قلدهم من المسلمين، وبها يتبين الفرق بين الاجتهادات المعتبرة والجهالات المُهدرة.
والتبديع يدخل في القطعيات واليقينيات لا في الظّنيات، كما قرره بعض أئمة المالكية وهو مفتي غرناطة وعالمها الإمام ابن المواق المالكي حيث قال:
«ما اختلف المالكية والشافعية في منه: لا حِسبة فيه، وخارج عن السنة من يقول”ذلك ضلال” أو بدعة“.»
بل وسبقه إليه إمام المالكية في وقته وقدوتهم ابن أبي زيد القيرواني (تـ386هـ) لما قال:
«.ولا يحل لنا أن نُكفره أو نُبدّعه إلا بأمر لاشك فيه عند العلماء. »
فمسائل الخلاف المعتبر التي تتجاذبها الأدلة لا يصح أن توصف بالبدعة
وها أنا ذا أسرد لك طَرَفًا من شواهد ذلك من كلام علماء الأمة وفقهاء الملة:
قال الإمام ابن رجب الحنبلي (تـ795هـ):
«فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة.»
(جامع العلوم والحكم 1\177)»
وكذاك قال في شرح عبارة الإمام الشافعي(تـ204هـ) في تقسيم البدعة إلى مذمومة وحسن،
«ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرناه من قبل: أن البدعة المذمومة: ماليس لها أصل من الشريعة يرجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع. وأما البدعة المحمودة: فما وافق السنة، يعني، ما كان لها أصل من السنة يرجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة. »
(حديث 28)
وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (تـ597هـ):
«وقوله: نعمت البدعة. البدعة: فعل شيء لا على مِثَال تقدّم، فسماها بدعة لأنها لم تكن في زمن رسول الله على تلك الصّفة، ولا في زمن أبي بكر، وقد تكون البدعة في الخير والشّر، وإنما المذموم من البدع ما ردّ مشروعا أو نافاه.»
(كشف مشكل الصحيحين صـ116)
وقال:
«ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يُذم.»
قال الإمام شهاب الدين أبو شامة المقدسي (تـ655هـ) رحمه الله:
«ثم الحوادث منقسمة إلى بدع مستحسنة وإلى بدع مستقبحة.. فالبدع الحسنة متفق عليه جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها وهي كل متبدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولايلزم من فعلها محذور شرعي. وأما البدع المستقبحة فهل التي أردنا نفيها بهذا الكتاب وإنكارها وهي: كل ما كان مخالفا للشريعة أو ملتزما لمخالفتها وذلك منقسم إلى محرم ومكروه ويختلف باختلاف الوقائع، وبحسب ما به من مخالفة الشريعة تارة ينتهي ذلك إلى ما يوجب التحريم وتارة لا ينجاوز صفة كراهة التنزيه.»
(الباعث على إنكار البدع والحوادث صـ22.)
قال الإمام القاضي ناصر الدين البيضاوي الشافعي (تـ685هـ):
«والمعنى: أنَّ مَنْ أحدث في الإسلام ما لم يكن له مِنَ الكتاب أو السُنة سند ظاهر أو خفي، ملفوظ أو مُسْتَنْبَط، فهو رد عليه، أي: مردود.»
(تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة 1/118 )
وكذا بهذا اللفظ عن الامام الطيبي الحنفي.
وقال الإمام المناوي الشافعي (تـ1031هـ) رحمه الله في شرحه لهذا الحديث:
«أما ما عضده عاضد منه بأن شهد له من أدلة الشرع أو قواعد فليس برد بل مقبول، كبناء نحو ربط ومدارس وتصنيف علم وغيرها.»
(فيض القدير 6/36 )
قال الإمام القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (تـ543هـ):
«اعلموا -علمكم الله- أن المُحدث على قسمين:- مُحدَث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة، فهذا باطل قطعاً.
– ومُحدَثٌ يَحمِل النظير على النظير: فهذه سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء. وليس المُحدَث والبدعة مذموماً للفظ مُحدثٍ وبدعةٍ، ولا لمعناها.» ( أي لا لمجرد الإحداث والمجيء بشيء لم يُسبق إليه مطلقا)(عارضة الأحوذي)
قد قال بهذا القول بلفظه العلامة شهاب الدين ابن فرح الإشبيلي في شرحه على الأربعين.
وقال الإمام الخطابي (تـ388هـ) في شرح قوله ﷺ: (كل محدثة بِدعَة):
«فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وكلِّ شيء أُحدِث على غير أصل من أصول الدين، وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردوداً إليها، فليس ببدعة ولا ضلالة.»
(معالم السنن)
وكذا قال العلامة الطوفي الحنبلي (تـ716هـ) :
قوله ﷺ: «(كل بدعة ضلالة)أي: كل بدعة لأن الحق فيما جاء به الشرع فما لا يرجع إليه بوجه يكون ضلالة،إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.»
وفي المدخل لابن الحاج المالكي (تـ737هـ) :
«البدع ثلاثة أضرب: أحدها: ما كان مباحا .. الضرب الثاني: ما كان حسنا، وهو كل مبتَدَع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها.. الضرب الثالث: ما كان مخالفا للشرع الشريف أم مستلزما لمخالفة الشرع الشريف.»
(4/277)
وقال القاضي الحافظ بدر الدين العيني (تـ855هـ):
«البدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم . ثم البدعة على نوعين : إن كانـت ممـا يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة. وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة.»
(شرحه على البخاري (11/126
قال العلامة ابن حجر الهيتمي المكّي (تـ974هـ):
«أما ما لا ينافي ذلك بأن شَهِد شيء من أدلة الشرع أو قواعده، فليس يُرَدُّ على فاعله، بل هو مقبول منه … قال الشافعي رضي الله عنه: (ما أُحدث وخالف كتاباً أو سُنة أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضالة، وما أُحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة)، والحاصل أن البدع الحسنة متفق على ندبه وهي ما وافق شيئا مما مر، ولم يلزم من فعله محذور شرعي.»
وقال العلامة المُلّا علي القاري الحنفي رحمه الله (تـ1014هـ):
«وفي قوله ﷺ : (ما ليس منه) إشارة إلى أن إحداث ما لا ينازع الكتاب والسنة -كما سنقرره بعد- ليس بمذموم.»
(مرقاة المفاتيح)
وقبل هؤلاء زمانا الإمام أبو محمد ابن حزم الاندلسي (تـ456هـ) رحمه الله إمام أهل الظاهر قال:
«والبدعة: كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نُسب إليه صلى الله عليه وسلم.
– وهو في الدين: كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
– إلا أن منها: ما يؤجر عليه صاحبه ويُعذر بما قصد إليه من الخير.
– ومنها: ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا، وهو ما كان أصله الإباحة.»(الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/47 )
وقال العلامة مجد الدين ابن الأثير (تـ606هـ) :
«وفي حديث عمر رضي اللَه عنه في قيام رمضان (نِعْمَت البِدْعة هذه)، البدعة بِدْعَتَان بدعة هُدًى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمَر اللّه به ورسوله صلى اللّه عليه وسلم فهو في حَيّز الذّم والإنكار، وما كان واقعا تحت عُموم ما نَدب اللّه إليه وحَضَّ عليه اللّه أو رسوله فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنَوْع من الجُود والسخاء وفعْل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وَردَ الشرع به. »
(النهاية فى غريب الحديث والأثر 1/ 106- 107))
(تـ699هـ) وقال الشيخ شمس الدين البعلي الدّمشقي الحنبلي:
«والبدعة مما عُمل على غير مثال سابق، والبدعة بدعتان بدعة هدى وبدعة ضلالة، والبدعة منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة. »
(المطلع على أبواب المقنع صـ334)
(تـ852هـ) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني:
«والبدعة أصلها ما أحُدث على غير مثال سابق، وتُطلق في الشرع في مقابل السنة: فتكون مذمومة.
والتحقيق: أنها إن كانت مما تندرج تحت مُستقبح في الشرع، فهي مُستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة.»(فتح الباري 4/253)
وهذا الإمام العلائي يحكي الاتفاق كغيره على هذا المعنى فيقول:
»وهذا الذي اتفق عليه العلماء في الأعصار كلها، أنهم يخصصون اسم البدعة بما كان مخالفا لقواعد الكتاب أو السنة أو الاجماع.
– وما كان مردودا إليها ليس مخالفا لها، لا يطلقون عليه اسم البدعة وإن كان محدثا بصورته الخاصة، لكنه لما كان مردودا إلى قواعد الشرع غير مناف لها لم يكن مذموما.»(فتاوى العلائي صـ123)
(تـ852هـ) وقال الحافظ السخاوي:
«سُئلتُ: كيف ساغ مع قوله “كل بدعة ضلالة” تقسيمها إ..لى الأحكام الخمسة ؟
قلت: نحملها على المُحدثات المخالفة للكتاب أو السنة أو الأثر أو الاجماع دون ضدها… ولذا جعل إمامنا الشافعي رضي الله عنه المحدثات على ضربين.»(الأجوبة المرضية 3/189)
وهذا التقسيم الخماسي للبدعة الذي ذكره الحافظ السخاوي قرره جماعات متظافرة من علماء السنة وفقهاء الملة من أبرزهم العز ابن عبد السلام والنووي والقرافي المالكي.
وكان مما تعرض له المنتقد هو إعراب الحديث ثم انقطع عن تحديد المعنى وَفق ما أعربه، وهذا من جملة من شرح الحديث من المتأخرين العلامة المفسر الطاهر ابن عاشور (تـ1393هـ) فقال:
«الحديث من جوامع الكلم، ومن أبلغ الكلام القريب من حدّ الإعجاز، بحيث لو غُيّر لفظ منه إلى غيره لفات معنى عظيم، فإن لكلمة “أمرنا” وكلمة “في” وكلمة “من”، خصوصيات هنا بالغة.. كلمة “من” فإنها مؤذنة بأن المُحدَث المردود ما كان غير متصل بالدّين، ومن المعلوم أن ليس المراد بكون الشيء من الدين أن يكون وقع التنصيص عليه في الدينّ، لأنه لو كان كذلك لم يُتصوّر أن يكون مُحدثًا، فتعين أن المراد يكون ليس منه: أن لا يأوي إليه بوجه.
والمراد بـ”الأمر” جنس من أجناس الأفعال ليس موجودا في الدين. مثل إحداث اعتقاد لا يدخل تحت عقائد السُنّة.. ومثل إحداث جنس عبادة.. أو إحداث حكم من الاحكام لعمل من أعمال المعاملات وليس ذلك العمل بصالح للدخول في زمرة أعمال ذلك الحكم.
وقال كذلك رحمه الله:
«على أنه كما أُطلق لفظ المُحدث ولفظ البدعة في مقام الذم، فقد أُطلق لفظ السنة كذلك في مقام الذم، ففي الحديث الصحيح: “من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة”.. فتعين رد هذه الألفاظ إلى معانيها المقصودة بقرائن سياق الكلام، وإرجاع الآثار الواردة فيها إلى أدلتها الشرعية.
(جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور )
فالبدعة المذمومة عند جماهير علماء أهل السنة هي الزيادة في الدين أو النقصان منه بغير إذن الشارع لا قولا ولا فعلا ولا صريحا ولا إشارة كما وصفه العلامة الرومي الحنفي في إقامة الحجة.
قال ابن رجب الحنبلي:
«ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه.»ـ
وإنما نشأ النزاع كما قال الإمام الذهبي رحمه الله
«.. من جهة قوم ظنوا أن البدعة هي كل ما لم يفعله النبي وأصحابه والتابعون ولم يقولوه.»
(جزء التمسك بالسنن)
وقريب منه ما أشار إليه السعد التفتازاني رحمه الله:
«ومن الجهلة من يجعل كلّ أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قُبحه.»
(شرح المقاصد)
وهذا المبحث كما يعلمه كل مطالع، دقيقٌ عويص مشكل شائك، والخوض فيه بتسطيح ممن لا يُحسنه ابتداءًا أو تقليدًا سَبّب كثيرا من الفِتن، فكان لِزاما على من عرف عواقبه الخطيرة وآثاره المستطيرة من أهل العلم الاحتساب فيه والقيام بواجب البيان على وجهه وإيقاف الطلاب والسائلين على المتفق عليه والمختلف فيه في هذا الباب وردّ تحريف الغالين وتأويل الجاهلين.
وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
الشيخ إلياس الرشيد اليوسفي